فصل: (فَصْلٌ): (متى تحرمُ الْوَصِيَّةُ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.(فَصْلٌ): [الْوَصِيَّةُ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ]:

(وَمَنْ وَصَّى فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ) بِكَسْرِ الْبَاءِ الطَّاعَةُ وَالْخَيْرُ وَالْإِحْسَانُ. إلَى النَّاسِ (صُرِفَ فِي الْقُرَبِ) كُلِّهَا؛ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَعَدَمِ الْمُخَصِّصِ. وَالْقُرَبُ جَمْعُ قُرْبَةٍ، وَهِيَ كُلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَيُبْدَأُ) مِنْهَا (بِالْغَزْوِ نَدْبًا) نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ. وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ يُجَزَّأُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءٌ فِي الْجِهَادِ، وَجُزْءٌ يُتَصَدَّقُ بِهِ فِي قَرَابَتِهِ، وَجُزْءٌ فِي الْحَجِّ. وَهَذَا- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَالتَّحْدِيدِ، بَلْ يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي جِهَاتِ الْبِرِّ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لِلْعُمُومِ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَرُبَّمَا كَانَ غَيْرُ هَذِهِ الْجِهَاتِ أَحْوَجَ مِنْ بَعْضِهَا وَأَحَقَّ، وَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى تَكْفِينِ مَيِّتٍ وَإِصْلَاحِ طَرِيقٍ وَفَكِّ أَسِيرٍ وَإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ وَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ أَكْثَرَ مِنْ دُعَائِهَا إلَى حَجِّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَتَكْلِيفُ وُجُوبِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَاجِبًا وَتَعَبًا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَرَاحَهُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقْدِيمُ هَذَا عَلَى مَا مَصْلَحَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ دَاعِيَةٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، تَحَكُّمٌ لَا مَعْنَى لَهُ.
(وَ) إنْ قَالَ الْمُوصِي لِمَنْ جَعَلَ لَهُ صَرْفَ ثُلُثِهِ (ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ أَرَاك اللَّهُ) أَوْ حَيْثُ يُرِيكَ اللَّهُ (فَلَهُ صَرْفُهُ فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرَبِ) رَأَى وَضْعَهُ فِيهِ؛ عَمَلًا بِمُقْتَضَى وَصِيَّتِهِ (وَالْأَفْضَلُ صَرْفُهُ لِفُقَرَاءِ أَقَارِبِهِ)؛ أَيْ: الْمُوصِي غَيْرِ الْوَارِثِينَ؛ لِأَنَّهَا فِيهِمْ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي أَقَارِبُ مِنْ النَّسَبِ (فـَ) إلَى (مَحَارِمِهِ مِنْ الرَّضَاعِ) كَأَبِيهِ وَأَخِيهِ وَعَمِّهِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ رَضَاعٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَحَارِمَ مِنْ الرَّضَاعِ (ف) إلَى (جِيرَانِهِ) الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ إلَى مَا يَرَاهُ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالتَّحَكُّمِ، وَلَوْ وَصَّى بِفِكَاكِ الْأَسْرَى أَوْ وَقَفَ مَالًا عَلَى فِكَاكِهِمْ؛ صُرِفَ مِنْ يَدِ الْوَصِيِّ أَوْ وَكِيلِهِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَيْهِ، وَيُوَفِّيَهُ مِنْهُ؛ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْجِهَاتِ. وَمَنْ افْتَكَّ أَسِيرًا غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ جَازَ صَرْفُ الْمَالِ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اقْتَرَضَ غَيْرُ الْوَصِيِّ مَالًا فَكَّ بِهِ أَسِيرًا جَازَتْ تَوْفِيَتُهُ مِنْهُ. وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ الْوَصِيُّ فِي افْتِكَاكِهِمْ مِنْ أُجْرَةٍ صُرِفَ مِنْ الْمَالِ. وَلَوْ تَبَرَّعَ بَعْضُ أَهْلِ الثَّغْرِ بِفِدَائِهِ، وَاحْتَاجَ الْأَسِيرُ إلَى نَفَقَةِ الْإِيَابِ؛ صُرِفَ مِنْ مَالِ الْأَسْرَى، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى مِنْ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ عَلَى افْتِكَاكِهِمْ أُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْهُ إلَى بُلُوغِ مَحِلِّهِ. قَالَهُ فِي الِاخْتِيَارَاتِ. (وَإِنْ وَصَّى) مَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ (أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِأَلْفٍ؛ صُرِفَ) الْأَلْفُ (مِنْ الثُّلُثِ إنْ كَانَ) الْحَجُّ (تَطَوُّعًا فِي حَجَّةٍ بَعْدَ أُخْرَى) لِمَنْ يَحُجُّ (رَاكِبًا) كَانَ الْحَاجُّ عَنْ الْمُوصِي (أَوْ رَاجِلًا يَدْفَعُ لِكُلٍّ) مِنْ الرَّاكِبِ وَالرَّاجِلِ (قَدْرَ مَا يَحُجُّ بِهِ) فَقَطْ، فَلَا يَدْفَعُ إلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَةِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ التَّصَرُّفَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ عِوَضَ الْمِثْلِ كَالتَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (حَتَّى يَنْفُذَ) الْأَلْفُ، لِأَنَّهُ وَصَّى بِجَمِيعِهِ فِي جِهَةِ قُرْبَةٍ، فَوَجَبَ صَرْفُهُ فِيهَا، كَمَا لَوْ وَصَّى فِي سَبِيلِ اللَّهِ (فَلَوْ لَمْ يَكْفِ الْأَلْفُ) أَنْ يَحُجَّ بِهِ مِنْ بَلَدِ مُوصٍ (أَوْ) صَرَفَ مِنْهُ فِي حَجَّةٍ بَعْدَ أُخْرَى وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ، وَلَمْ تَكْفِ (الْبَقِيَّةُ) لِلْحَجِّ (حَجَّ بِهِ)؛ أَيْ: الْبَاقِي (مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ) نَصًّا؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ عَيَّنَ صَرْفَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ، فَصُرِفَ فِيهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ (وَلَا يَصِحُّ حَجُّ وَصِيٍّ بِإِخْرَاجِهَا)؛ أَيْ: إخْرَاجِ نَفَقَةِ الْحَجِّ. نُصَّ عَلَيْهِ، قَالَ: لِأَنَّهُ مُنَفِّذٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: تَصَدَّقْ بِهِ، لَا يَأْخُذُهُ. انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَأْخَذَ الْمَنْعِ عَدَمُ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ. (وَلَا) يَصِحُّ أَيْضًا (حَجُّ وَارِثٍ) بِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْمُوصِي جَعْلُهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ عَيَّنَ الْمُوصِي أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ؛ جَازَ، وَيُجْزِئُ أَنْ يُحَجَّ عَمَّنْ أَوْصَى بِالْحَجِّ، وَلَا حَجَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمِيقَاتِ حَمْلًا عَلَى أَدْنَى الْحَالَاتِ؛ وَالْأَصْلُ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّائِدِ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا تَنَاوَلَ الْحَجَّ، وَفِعْلُهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَقَطْعُ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْمَسَافَةِ لَيْسَ مِنْهُ. (وَإِنْ قَالَ) يَحُجُّ عَنِّي (حَجَّةً بِأَلْفٍ دَفَعَ الْكُلَّ لِمَنْ يَحُجُّ) بِهِ عَنْهُ حَجَّةً وَاحِدَةً؛ عَمَلًا بِمُقْتَضَى وَصِيَّتِهِ وَتَنْفِيذًا لَهَا (فَإِنْ عَيَّنَهُ) الْمُوصِي بِأَنْ قَالَ: يَحُجُّ عَنِّي زَيْدٌ حَجَّةً بِأَلْفٍ فَهُوَ وَصِيَّةٌ لَهُ: أَنْ حُجَّ، وَلَهُ أَخْذُهُ قَبْلَ التَّوَجُّهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التَّجْهِيزِ بِهِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْأَخْذُ قَبْلَهُ، لَكِنْ لَا يَمْلِكُهُ بِالْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ جُعِلَ لَهُ عَلَى صِفَةٍ، فَلَا يَمْلِكُ بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَلَا يُعْطَى الْمَالُ إلَّا أَيَّامَ الْحَجِّ احْتِيَاطًا لِلْمَالِ، وَلِأَنَّهُ مَعُونَةٌ فِي الْحَجِّ؛ فَلَيْسَ مَأْذُونًا فِيهِ قَبْلَ وَقْتِهِ (فـَ) إنْ (أَبَى) زَيْدٌ (الْحَجَّ)، وَقَالَ: اصْرِفُوا لِي الْفَضْلَ لَمْ يُعْطَهُ، وَ(بَطَلَتْ) الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّهِ؛ أَيْ: بَطَلَ تَعْيِينُهُ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ فِيهَا حَقٌّ لِلْحَجِّ وَحَقٌّ لِلْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا رَدَّ بَطَلَ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ كَقَوْلِهِ: بِيعُوا عَبْدِي لِفُلَانٍ، وَتَصَدَّقُوا بِثَمَنِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ. وَكَذَا لَوْ لَمْ يَقْدِرْ الْمُوصَى لَهُ بِفَرَسٍ فِي السَّبِيلِ عَلَى الْخُرُوجِ. نَقَلَهُ أَبُو طَالِبٍ (وَيَحُجُّ عَنْهُ) ثِقَةٌ سِوَى الْمُعَيَّنِ الرَّادِّ (بِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ) مِنْ النَّفَقَةِ لِمِثْلِهِ، وَحِينَئِذٍ فَالنَّائِبُ أَمِينٌ فِيمَا أُعْطِيهِ لِيَحُجَّ مِنْهُ، (وَالْبَقِيَّةُ) بَعْدَ نَفَقَةِ مِثْلِهِ (لِلْوَرَثَةِ)؛ لِأَنَّهُ لَا مَصْرَفَ لَهَا؛ لِبُطْلَانِ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ بِامْتِنَاعِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْحَجِّ؛ كَمَا لَوْ وَصَّى بِهِ لِإِنْسَانٍ، فَرَدَّ الْوَصِيَّةَ (فِي) حَجِّ (فَرْضٍ وَنَفْلٍ) وَلِلنَّائِبِ تَأْخِيرُ الْحَجِّ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ (وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ) الْمُعَيَّنُ مِنْ الْحَجِّ (أُعْطَى الْأَلْفَ)؛ لِأَنَّهُ مُوصَى لَهُ بِالزِّيَادَةِ بِشَرْطِ حَجِّهِ، وَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلْحَجِّ، فَوَجَبَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا قَالَ مُوصٍ (وَحُسِبَ الْفَاضِلُ) مِنْ الْأَلْفِ (عَنْ نَفَقَةِ مِثْلٍ) لِتِلْكَ الْحَجَّةِ (فِي فَرْضٍ) مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُتَبَرَّعُ بِهِ، وَتَكُونُ نَفَقَةُ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ (وَ) حُسِبَ (الْأَلْفُ) جَمِيعُهُ إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ (فِي) حَجِّ (نَفْلٍ مِنْ الثُّلُثِ)؛ لِأَنَّهَا تَطَوُّعٌ بِأَلْفٍ بِشَرْطِ الْحَجِّ عَنْهُ، وَإِنْ قَالَ: حُجُّوا عَنِّي حَجَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرًا مِنْ الْمَالِ؛ دَفَعَ إلَى مَنْ يَحُجُّ قَدْرَ نَفَقَةِ الْمِثْلِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ لَا يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا. (وَلَوْ وَصَّى بِثَلَاثِ حِجَجٍ إلَى ثَلَاثَةٍ، صَحَّ صَرْفُهَا) إلَى ثَلَاثَةٍ (فِي عَامٍ وَاحِدٍ) لِإِطْلَاقِ الْوَصِيَّةِ وَإِمْكَانِ الْفِعْلِ.
قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: وَكَانَ أَوْلَى مِنْ التَّأْخِيرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُوصِي فَرْضٌ، فَيُحْرِمُ النَّائِبُ بِالْفَرْضِ أَوَّلًا؛ لِتَقَدُّمِهِ فَإِنْ أَحْرَمَ بِغَيْرِهِ قَبْلَهُ وَقَعَ عَنْ الْفَرْضِ وَتَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ، وَكَذَا إنْ وَصَّى بِثَلَاثِ حِجَجٍ وَلَمْ يَقُلْ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: حُجُّوا عَنِّي بِأَلْفٍ وَأَمْكَنَ أَنْ يُسْتَنَابَ بِهِ جَمَاعَةٌ فِي عَامٍ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: صُرِفَ فِي حَجَّةٍ بَعْدَ أُخْرَى- أَيْ: بَعْدَ الصَّرْفِ فِي حَجَّةٍ أُخْرَى- كَمَا يَمِيلُ إلَيْهِ كَلَامُ الْحَارِثِيِّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْصُلْ بِالْمُبَاشَرَةِ إلَّا بِحَجَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَّسِعُ لِأَكْثَرَ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَحْصُلَ بِالنَّائِبِ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ إذَا تَعَدَّدَ أَمْكَنَ الِاتِّسَاعُ، فَأَمْكَنَ تَعَدُّدُ الْوُقُوعِ (وَتَلَفُ مَالٍ بِطَرِيقٍ عَلَى مُوصٍ) غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى النَّائِبِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ بِالْإِذْنِ فِي إثْبَاتِ يَدِهِ أَشْبَهَ الْمُودَعَ وَالتَّصَرُّفُ بِالْإِنْفَاقِ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا، وَلَا يَزِيدُ ائْتِمَانًا؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ كَمَا فِي إنْفَاقِ الْمُضَارِبِ بِالْإِذْنِ (وَلَيْسَ عَلَى نَائِبٍ) تَلِفَتْ النَّفَقَةُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ (إتْمَامُ حَجٍّ) وَلَا يَضْمَنُ مَا كَانَ أَنْفَقَ؛ لِوُجُودِ الْإِذْنِ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ أَوْ أُحْصِرَ أَوْ مَرِضَ أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ؛ لِلْإِذْنِ فِيهِ. وَإِنْ رَجَعَ خَشْيَةَ أَنْ يَمْرَضَ وَجَبَ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ صَحِيحٌ، وَالْعُذْرُ مَوْهُومٌ، وَلِلْمَعْذُورِ مِمَّنْ ذَكَرَ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ، وَإِنْ مَضَى مَنْ ضَاعَتْ مِنْهُ النَّفَقَةُ، فَمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَالٍ اسْتَدَانَهُ؛ رَجَعَ بِهِ عَلَى التَّرِكَةِ إذَا عَادَ إنْ كَانَ وَاجِبًا، وَإِنْ مَضَى هَذَا الضَّائِعُ مِنْهُ النَّفَقَةُ لِلْحَجِّ عَنْ آخَرَ بِنَفَقَةٍ يَأْخُذُهَا، جَازَ؛ لِانْقِطَاعِ عَلَاقَتِهِ عَنْ الْأَوَّلِ بِنَفَادِ نَفَقَتِهِ، وَلِانْتِفَاءِ اللُّزُومِ، وَعَلَى الْمُوصِي اسْتِنَابَةُ ثِقَةٍ؛ لِأَنَّ فِي الْحَجِّ أَمَانَةً؛ فَإِنَّ مَا تَتَوَقَّفُ الصِّحَّةُ عَلَيْهِ النِّيَّةُ، وَلَا تُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ ثِقَةً لَا يَبْرَأُ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ. (وَوَصِيَّةٌ بِصَدَقَةٍ) بِمَالٍ (أَفْضَلُ مِنْ وَصِيَّتِهِ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ) لِمَا تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ مِنْ حَجَّةٍ. (وَلَوْ وَصَّى بِعِتْقِ نَسَمَةٍ بِأَلْفٍ، فَأَعْتَقُوا)؛ أَيْ: الْوَرَثَةُ نَسَمَةً بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لَزِمَهُمْ عِتْقُ نَسَمَةٍ (أُخْرَى بِخَمْسِمِائَةٍ) حَيْثُ احْتَمَلَ الثُّلُثُ الْأَلْفَ اسْتِدْرَاكًا لِبَاقِي الْوَاجِبِ. (وَإِنْ قَالَ) الْمُوصِي: اعْتِقُوا (أَرْبَعَةَ) أَعْبُدٍ (بِكَذَا) كَخَمْسِمِائَةٍ (جَازَ الْفَضْلُ بَيْنَهُمْ) بِأَنْ يُشْتَرَى وَاحِدٌ بِمِائَةٍ وَآخَرُ بِمِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَآخَرُ بِثَمَانِينَ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ (مَا لَمْ يُسَمِّ لِكُلٍّ) مِنْ الْأَرْبَعَةِ (ثَمَنًا مَعْلُومًا) فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَا قَالَ. (وَلَوْ وَصَّى بِعِتْقِ عَبْدِ زَيْدٍ وَوَصِيَّةً لَهُ) بِأَنْ قَالَ: يُشْتَرَى عَبْدُ زَيْدٍ وَيَعْتِقُ وَيُعْطَى مِائَةً (فَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ؛ أَخَذَ الْعَبْدُ الْوَصِيَّةَ) بِالْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ أَوْصَى بِوَصِيَّتَيْنِ عِتْقِهِ وَإِعْطَائِهِ الْمِائَةَ، فَإِذَا فَاتَ عِتْقُهُ لِسَبْقِ سَيِّدِهِ بِهِ بَقِيَتْ الْأُخْرَى.
(وَ) لَوْ وَصَّى (بِعِتْقِ عَبْدٍ) مِنْ عَبِيدِهِ (بِأَلْفٍ) نَفَذَ ذَلِكَ إنْ خَرَجَ الْأَلْفُ مِنْ الثُّلُثِ، أَوْ (اُشْتُرِيَ) عَبْدٌ (بِثُلُثِهِ)؛ أَيْ: ثُلُثِ الْمَالِ (إنْ لَمْ يَخْرُجْ) الْأَلْفُ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ. (وَلَوْ وَصَّى بِشِرَاءِ فَرَسٍ) لَهُ (لِلْغَزْوِ بِمُعَيَّنٍ) كَأَلْفٍ (وَ) وَصَّى (بِمِائَةٍ نَفَقَةً) لِلْفَرَسِ (فَاشْتُرِيَ) الْفَرَسُ (بِأَقَلَّ مِنْهُ)؛ أَيْ: الْأَلْفِ وَالْحَالُ أَنَّ الثُّلُثَ يَحْتَمِلُ الْأَلْفَ وَالْمِائَةَ (فَبَاقِيهِ)؛ أَيْ: الْأَلْفِ (نَفَقَةٌ) لِلْفَرَسِ نُصَّ عَلَيْهِ، (لَا إرْثَ)؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْأَلْفَ وَالْمِائَةَ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْفَرَسُ فِيهِمَا، فَهُمَا مَالٌ وَاحِدٌ، بَعْضُهُ لِلثَّمَنِ، وَبَعْضُهُ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُ الثَّمَنِ لِتَحْصِيلِ صِفَةٍ، فَإِذَا حَصَلَتْ فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ، فَيَخْرُجُ الثَّمَنُ مِنْ الْمَالِ وَتَبْقَى بَقِيَّتُهُ لِلنَّفَقَةِ. بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَّى بِعِتْقِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ، فَاشْتَرَوْا مَا يُسَاوِيهِ بِثَمَانِمِائَةٍ فَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، فَإِنَّهُ لَا مَصْرَفَ لَهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. (وَإِنْ وَصَّى لِأَهْلِ سِكَّتِهِ) (فَا) لْمُوصَى بِهِ (لِأَهْلِ زُقَاقِهِ) بِضَمِّ الزَّايِ- أَيْ: زُقَاقِ الْمُوصِي- وَالْجَمْعُ أَزِقَّةٌ.
قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يُؤَنِّثُونَ الزُّقَاقَ وَالطَّرِيقَ وَالسَّبِيلَ وَالصِّرَاطَ وَالسُّوقَ، وَتَمِيمٌ تُذَكِّرُ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَالْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ خِطِّهِ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلُ الْعُرْفِ يَقُولُهُ بِالضَّمِّ، يَسْتَحِقُّهَا أَهْلُ دَرْبِهِ وَمَا قَارَبَهُ مِنْ الشَّارِعِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْعُرْفُ، وَالدَّرْبُ فِي الْأَصْلِ بَابُ السِّكَّةِ الْوَاسِعُ، قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَأَصْلُ السِّكَّةِ الطَّرِيقُ الْمُصْطَفَّةُ مِنْ النَّخْلِ وَسُمِّيَ الدَّرْبُ سِكَّةً لِاصْطِفَافِ الْبُيُوتِ بِهِ، فَإِذَا أَوْصَى لِأَهْلِ سِكَّتِهِ أُعْطِيَ لِأَهْلِ دَرْبِهِ لِذَلِكَ؛ وَقَدْ كَانَتْ الدُّرُوبُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ تُسَمَّى سِكَكًا، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى بِهِ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ مَنْ كَانَ سَاكِنًا فِيهِ (حَالَ الْوَصِيَّةِ) نَصًّا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَلْحَقُ أَعْيَانَ سُكَّانِهَا الْمَوْجُودِينَ لِحَصْرِهِمْ.
تَتِمَّةٌ:
لَوْ وَصَّى بِمَا فِي كِيسٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُتَجَدِّدَ فِيهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. وَلَوْ وَصَّى لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فَلِمَنْ اتَّصَفَ بِهِ؛ أَوْ لِأَهْلِ الْقُرْآنِ فَلِلْحَفَظَةِ. ذَكَرَهُ الْحَجَّاوِيُّ فِي الْحَاشِيَةِ.
(وَ) لَوْ وَصَّى (لِجِيرَانِهِ تَنَاوَلَ أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ) نَصًّا؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْجَارُ أَرْبَعُونَ دَارًا هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» رَوَاه أَحْمَدُ. وَالْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ حَارَتِهِ (وَتُقَسَّمُ) الْوَصِيَّةُ (عَلَى عَدَدِ الدُّورِ، ثُمَّ تُقَسَّمُ حِصَّةُ كُلِّ دَارٍ عَلَى سُكَّانِهَا) لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِضَافَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ (وَجِيرَانُ الْمَسْجِدِ مَنْ يَسْمَعُ النِّدَاءَ) لِحَدِيثِ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَعْمَى لَمَّا سَأَلَهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَأَجِبْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وَ) إنْ وَصَّى (لِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ) (أَوْ) وَصَّى (لِأَقْرَبِ قَرَابَتِهِ أَوْ) وَصَّى (لِأَقْرَبِهِمْ رَحِمًا) لَا يُدْفَعُ إلَى الْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ، فَلَوْ مَاتَ مُوصٍ لِأَحَدِ مَنْ ذُكِرَ (وَلَهُ)؛ أَيْ: الْمُوصِي (أَبٌ وَابْنٌ) فَهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُدْلِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، (أَوْ) كَانَ لَهُ (جَدٌّ وَأَخٌ) لِغَيْرِ أُمٍّ (فَهُمَا سَوَاءٌ) حَيْثُ لَمْ يَرِثَا لِمَانِعٍ، أَوْ أُجِيزَ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ وَالْأَخَ يُدْلِيَانِ بِالْأَبِ (وَأَخٌ مِنْ أَبٍ وَأَخٌ مِنْ أُمٍّ لَوْ دَخَلَ) الْأَخُ لِأُمٍّ (فِي الْقَرَابَةِ سَوَاءٌ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُرْبِ، وَالْمَذْهَبُ: لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْأُمِّ فِي الْقَرَابَةِ، وَيَأْتِي اسْتِدْرَاكُ الْمُصَنِّفِ (وَكَذَا جَدُّهُ لِأَبِيهِ وَجَدُّهُ لِأُمِّهِ) فِي الْقَرَابَةِ سَوَاءٌ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُرْبِ (وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي الْقُرْبَةِ مَنْ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ) كَالْأَخِ لِأُمٍّ وَالْجَدِّ لَهَا وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ (وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ أَحَقُّ مِنْهُمَا)؛ أَيْ: مِنْ الْأَخِ لِأَبٍ فَقَطْ وَالْأَخِ لِأُمٍّ فَقَطْ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ قَرَابَتَانِ أَقْرَبُ مِمَّنْ لَهُ قَرَابَةٌ وَاحِدَةٌ (وَالذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ فِيهَا) سَوَاءٌ؛ أَيْ: الْقَرَابَةِ، فَالِابْنُ وَالْبِنْتُ وَالْأَخُ وَالْأُخْتُ سَوَاءٌ، وَالْأَبُ أَوْلَى مِنْ ابْنِ الِابْنِ وَمِنْ الْجَدِّ وَمِنْ الْإِخْوَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ يُدْلِي بِلَا وَاسِطَةٍ أَقْرَبُ مِمَّنْ يُدْلِي بِوَاسِطَةٍ، وَكُلُّ مَنْ قُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ قُدِّمَ وَلَدُهُ، فَيُقَدَّمُ ابْنُ أَخٍ لِأَبَوَيْنِ عَلَى ابْنِ أَخٍ لِأَبٍ إلَّا الْجَدَّ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى بَنِي إخْوَةِ الْمُوصِي مَعَ أَنَّهُ يَسْتَوِي مَعَ آبَائِهِمْ، وَإِلَّا أَخَاهُ لِأَبِيهِ؛ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ كَمَا فِي الْإِرْثِ، مَعَ أَنَّ الْأَخَ لِأَبَوَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
تَنْبِيهٌ:
لَوْ وَصَّى لِقَرَابَتِهِ أَوْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ جِيرَانِهِ أَوْ أَهْلِ مَحَلَّتِهِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَدْخُلْ مَنْ وُجِدَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمَوْتِ كَمَنْ وُجِدَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَائِدَةٌ:
لَوْ وَصَّى أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ بِدَرَاهِمَ، لَمْ تُنَفَّذْ وَصِيَّتُهُ، وَصُرِفَتْ الدَّرَاهِمُ فِي الصَّدَقَةِ، وَيَخْتَصُّ بِهَا أَهْلُ الصَّلَاةِ. وَلَوْ وَصَّى أَنْ يُشْتَرَى مَكَانَ مُعَيَّنٌ، فَيُوقَفُ عَلَى جِهَةِ بِرٍّ، فَلَمْ يُبَعْ ذَلِكَ الْمَكَانُ؛ اُشْتُرِيَ مَكَانٌ آخَرُ وَوُقِفَ عَلَيْهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا قَالَ: بِيعُوا غُلَامِي مِنْ زَيْدٍ، وَتَصَدَّقُوا بِثَمَنِهِ، فَامْتَنَعَ زَيْدٌ مِنْ شِرَائِهِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاعُ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ. وَلَوْ وَصَّى بِمَالٍ يُنْفَقُ عَلَى وَجْهٍ مَكْرُوهٍ، صُرِفَ فِي الْقُرَبِ. قَالَهُ فِي الِاخْتِيَارَاتِ.

.(فَصْلٌ): [متى تحرمُ الْوَصِيَّةُ]:

(وَلَا تَصِحُّ) الْوَصِيَّةُ (لِنَحْوِ كَنِيسَةٍ) كَدَيْرٍ وَبِيعَةٍ (أَوْ بَيْتِ نَارٍ) أَوْ صَوْمَعَةٍ أَوْ مَكَانٍ مِنْ أَمَاكِنِ الْكُفْرِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِبِنَائِهَا أَوْ إصْلَاحِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ كَشِرَاءِ حُصْرِهَا وَشُعَلِ قَنَادِيلِهَا وَخِدْمَتِهَا وَلَوْ مِنْ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ؛ فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِهِ، كَوَصِيَّتِهِ بِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ لِلْفُجُورِ أَوْ شِرَاءِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ (أَوْ كُتُبٍ نَحْوِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) كَالزَّبُورِ وَالصُّحُفِ، وَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ ذِمِّيٍّ فَلَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَالِاشْتِغَالُ بِهَا غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، «وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ شَيْئًا مَكْتُوبًا مِنْ التَّوْرَاةِ». (وَلَا) تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكِتَابَةِ كُتُبِ (سِحْرٍ) وَتَعْزِيمٍ وَتَنْجِيمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لِأَنَّهَا إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، (وَلَا) لِكِتَابَةِ (عِلْمِ كَلَامٍ)؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ مِنْ الْعِلْمِ، وَيَأْتِي إذْ لَوْ وَصَّى إنْسَانٌ لِآخَرَ بِكُتُبِ عِلْمٍ لَا تَدْخُلُ فِيهَا كُتُبُ الْكَلَامِ. (وَلَا) تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِعَامَّةِ (الْيَهُودِ وَ) لَا (النَّصَارَى)، بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ؛ فَإِنَّهَا تَصِحُّ لَهُ، وَتَقَدَّمَ. (أَوْ)؛ أَيْ: وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ الْكُفْرِ أَوْ الْجَهْلِ شَرْطًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ. فَلَوْ وَصَّى (لِأَجْهَلِ النَّاسِ) لَمْ تَصِحَّ. قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْبُسْتِيُّ: أَجْهَلُ النَّاسِ مَنْ كَانَ عَلَى السُّلْطَانِ مُدِلًّا وَلِلْإِخْوَانِ مُذِلًّا؛ أَيْ: كَأَتْبَاعِ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ يَبِيعُونَ دِينَهُمْ بِدِينِ غَيْرِهِمْ، وَلَا يُبَالُونَ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ بِأَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ، وَلَا يَبْتَغُونَ سِوَى مَرْضَاةِ مَنْ يُوَلِّيهِمْ الْوِلَايَاتِ، وَيُبَارِزُونَ لِأَجْلِهِ جَبَّارَ السَّمَوَاتِ، مَعَ أَنَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَيُذِيقُهُمْ شَدِيدَ الْعَذَابِ مَعَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَبِمُجَرَّدِ خَلَاصِهِمْ مِمَّا لَهُ مِنْ أَشْرَاكٍ يَتَوَسَّلُونَ إلَيْهِ لِيُعِيدَهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الِانْهِمَاكِ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَجْهَلُ النَّاسِ وَأَطْوَعُهُمْ لِمَتْبُوعِهِمْ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، فَمَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الرَّدِيئَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ لَهُ الْوَصِيَّةُ، بَلْ يَعُودُ كَبَاقِي التُّرَاثِ، وَيَحُوزُهَا أَقَارِبُ الْمُوصِي مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَصِيَّةِ إنَّمَا هُوَ الْبِرُّ وَالصِّلَةُ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، وَفِي دَفْعِهَا إلَيْهِمْ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ لِتَمَكُّنِ الْجَهْلِ مِنْهُمْ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِي تَارِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ أَنَّ الذُّبَابَ كَانَ لَا يَقَعُ عَلَى جَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى ثِيَابِهِ، وَهُوَ أَجْهَلُ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْهَلَكَةِ. (أَوْ)؛ أَيْ: وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ (لِجِنِّيٍّ أَوْ مَلِكٍ أَوْ مَيِّتٍ)؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ، [وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ] فَلَمْ يَصِحَّ لَهُمْ كَالْهِبَةِ. (أَوْ)؛ أَيْ: وَلَا تَصِحُّ لِشَخْصٍ (مُبْهَمٍ كَأَحَدِ هَذَيْنِ) لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُوصَى بِهِ شَرْطٌ، فَإِذَا قَالَ لِأَحَدِ هَذَيْنِ فَقَدْ أَبْهَمَ الْمُوصَى لَهُ. (وَيَتَّجِهُ وَلَا) تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ (بِبِنَاءِ بَيْتٍ يَسْكُنُهُ مَارٌّ)؛ أَيْ: مُجْتَازٌ (مِنْ أَهْلِ ذِمَّةٍ أَوْ) أَهْلِ (حَرْبٍ، خِلَافًا لَهُ)؛ أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ كَذَا قَالَ مَعَ أَنَّ مَا فِي الْإِقْنَاعِ قَطَعَ بِهِ الْمُوَفَّقُ والشَّارِحُ والْمُبْدِعُ وَشَارِحُ الْمُنْتَهَى وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ يَحْكُوا فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا، وَعِبَارَتُهُمْ: وَإِنْ وَصَّى بِبِنَاءِ بَيْتٍ لِيَسْكُنَهُ الْمُجْتَازُونَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ صَحَّ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ مَسَاكِنِهِمْ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ. (وَلَا) تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ (لِبَهِيمَةٍ إنْ قَصَدَ) الْمُوصِي (تَمْلِيكَهَا) لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ. (وَتَصِحُّ) الْوَصِيَّةُ (لِفَرَسِ زَيْدٍ، وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ)؛ أَيْ: الْمُوصَى بِهِ زَيْدٌ (وَيُصْرَفُ) الْمُوصَى بِهِ (فِي عَلَفِهِ) رِعَايَةً لِقَصْدِ الْمُوصِي (فَإِنْ مَاتَ) الْفَرَسُ قَبْلَ إنْفَاقِ الْكُلِّ عَلَيْهِ (فَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ)؛ أَيْ: وَرَثَةِ الْمُوصِي لَا لِمَالِكِ الْفَرَسِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ، وَهِيَ الصَّرْفُ فِي مَصْلَحَةِ دَابَّتِهِ رِعَايَةً لِقَصْدِ الْمُوصِي.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: بِحَيْثُ يَتَوَلَّى الْوَصِيُّ أَوْ الْحَاكِمُ الْإِنْفَاقَ لَا الْمَالِكُ، أَمَّا الْوَارِثُ فَلِأَنَّهُ قَدْ يُتَّهَمُ، وَأَمَّا الْمَالِكُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ. (وَإِنْ) (أَوْصَى لِمَنْ)؛ أَيْ: مَيِّتٍ (يَعْلَمُ) الْمُوصِي (مَوْتَهُ أَوْ لَا) يَعْلَمُ مَوْتَهُ (وَحَيٍّ) (فَلِلْحَيِّ النِّصْفُ) وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ مُوصٍ الْمُوصَى بِهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَيْهِمَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ؛ بَطَلَ فِي نَصِيبِهِ، وَبَقِيَ نَصِيبُ الْحَيِّ وَهُوَ النِّصْفُ. (وَكَذَا) إنْ وَصَّى (لِحَيَّيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا) قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَلِلْحَيِّ النِّصْفُ.
قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ.
(وَ) إنْ وَصَّى (لَهُ)؛ أَيْ: لِإِنْسَانٍ حَيٍّ (وَلِمَلِكٍ، أَوْ) وَوَصَّى لَهُ (وَلِحَائِطٍ بِالثُّلُثِ) كَمَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِزَيْدٍ وَجِبْرِيلَ مَثَلًا، أَوْ لَهُ وَلِحَائِطٍ (فَلَهُ)؛ أَيْ؛ زَيْدٍ فِي الْمِثَالِ (الْجَمِيعُ)؛ أَيْ: جَمِيعُ الثُّلُثِ نَصًّا؛ لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَهُ مَعَهُ لَا يَمْلِكُ؛ فَلَا يَصِحُّ التَّشْرِيكُ، وَإِنْ وَصَّى لِزَيْدٍ وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَيَتَّجِهُ) أَنَّهَا (لَا) تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ (غَيْرِ نَبِيِّنَا) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا تَصِحُّ لَهُ، وَتُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي صِحَّتِهَا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اخْتِصَاصُهُ بِالْغَنِيمَةِ دُونَ غَيْرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}. الْآيَةَ. وَكَأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَى الْغَنِيمَةِ، فَلِذَلِكَ صَحَّتْ لَهُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (فـَ) الْمُوصَى بِهِ (نِصْفَانِ) بَيْنَهُمَا (وَمَا لِلَّهِ أَوْ الرَّسُولِ فَ) يُصْرَفُ (فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ) كَالْفَيْءِ.
(وَ) إنْ وَصَّى (بِثُلُثِهِ)؛ أَيْ: ثُلُثِ مَالِهِ (لِوَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ) فَأَجَازَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ وَصِيَّةَ الْوَارِثِ؛ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْإِضَافَةِ التَّسْوِيَةُ، وَإِنْ وَصَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُعَيَّنَيْنِ قِيمَتُهُمَا الثُّلُثُ، فَأَجَازَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ وَصِيَّةَ الْوَارِثِ، (فـَ) الْوَصِيَّتَانِ لَهُمَا عَلَى مَا قَالَ الْمُوصِي؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ. وَإِنْ (رَدَّ الْوَرَثَةُ فَلِأَجْنَبِيٍّ السُّدُسُ) فِي الْأُولَى وَلِلْمُعَيَّنِ الْمُوصَى لَهُ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ، وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ؛ لِعَدَمِ إجَازَتِهَا.
(وَ) إنْ وَصَّى لَهُمَا (بِثُلُثَيْهِ) سَوِيَّةً (فَرَدُّوا)؛ أَيْ: الْوَرَثَةُ (نِصْفَهَا)؛ أَيْ: الْوَصِيَّةِ (وَهُوَ مَا جَاوَزَ الثُّلُثَ) بِلَا تَعْيِينِ نَصِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّ الْوَارِثَ يُزَاحِمُ الْأَجْنَبِيَّ مَعَ الْإِجَازَةِ، فَإِذَا رَدُّوا؛ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. (وَلَوْ رَدُّوا نَصِيبَ وَارِثٍ) فَقَطْ (أَوْ أَجَازُوا) الْوَصِيَّةَ (لِلْأَجْنَبِيِّ) فَقَطْ (فَلَهُ)؛ أَيْ: الْأَجْنَبِيِّ (الثُّلُثُ) كَامِلًا (كَإِجَازَتِهِمْ لِلْوَارِثِ) فَيَكُونُ لَهُ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا لَهُمَا وَيَرُدُّوا عَلَيْهِمَا، فَلَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا لِأَحَدِهِمَا، وَيَرُدُّوا عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ رَدُّوا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ وَنِصْفَ وَصِيَّةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ فَلِلْأَجْنَبِيِّ السُّدُسُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجِيزُوا الثُّلُثَ لَهُمَا، فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ، فَإِذَا رَجَعُوا فِيمَا لِلْوَارِثِ لَمْ يَزِدْ الْأَجْنَبِيَّ عَلَى مَالِهِ حَالَ الْإِجَازَةِ لِلْوَارِثِ، وَلَوْ أَرَادُوا نَقْصَ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ نِصْفِ وَصِيَّتِهِ لَمْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ، أَجَازُوا لِلْوَارِثِ أَوْ رَدُّوا. وَإِنْ وَصَّى بِثُلُثِهِ لِوَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ، وَقَالَ: إنْ رَدُّوا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ، فَرَدُّوا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ؛ فَكَمَا قَالَ الْمُوصِي، وَإِنْ أَجَازُوا لِلْوَارِثِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا.
(وَ) مَنْ لَهُ ابْنَانِ فَقَطْ وَوَصَّى (بِمَالِهِ) كُلِّهِ (لِابْنَيْهِ وَأَجْنَبِيٍّ فَرَدَّاهَا)؛ أَيْ: رَدَّ الِابْنَانِ الْوَصِيَّةَ (فَلَهُ)؛ أَيْ: الْأَجْنَبِيِّ (التُّسْعُ) لِأَنَّهُ بِالرَّدِّ رَجَعَتْ الْوَصِيَّةُ إلَى الثُّلُثِ، وَالْمُوصَى لَهُ ابْنَانِ وَأَجْنَبِيٌّ، فَيَكُونُ لِلْأَجْنَبِيِّ التُّسْعُ؛ لِأَنَّهُ ثُلُثُ الثُّلُثِ.
(وَ) إنْ وَصَّى (بِثُلُثِهِ لِزَيْدٍ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَلَهُ)؛ أَيْ: زَيْدٍ (تُسْعٌ) وَالتُّسْعَانِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَالْوَصِيَّةِ لِثَلَاثِ جِهَاتٍ، فَوَجَبَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ وَصَّى لِثَلَاثِ أَنْفُسٍ (وَلَا يَسْتَحِقُّ) زَيْدٌ (مَعَهُمْ)؛ أَيْ: الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ (بِالْفَقْرِ) وَالْمَسْكَنَةِ شَيْئًا؛ لِاقْتِضَاءِ الْعَطْفِ الْمُغَايِرَةَ. وَلَوْ وَصَّى لِزَيْدٍ وَلِلْفُقَرَاءِ بِثُلُثِهِ؛ قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ زَيْدٍ وَالْفُقَرَاءِ نِصْفَيْنِ، نِصْفٌ لِزَيْدٍ وَنِصْفُهُ لِلْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَاسْتَوَيَا فِي قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَلَوْ قَالَ لِزَيْدٍ وَالْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ؛ فَلِزَيْدٍ الثُّلُثُ، وَلَهُمَا الثُّلُثَانِ كَذَلِكَ. (وَلَوْ وَصَّى بِشَيْءٍ لِزَيْدٍ وَبِشَيْءٍ) آخَرَ (لِلْفُقَرَاءِ) وَزَيْدٌ مِنْهُمْ؛ لَمْ يُشَارِكْهُمْ، (أَوْ وَصَّى) لِزَيْدٍ بِشَيْءٍ وَ(لِجِيرَانِهِ وَزَيْدٌ مِنْهُمْ؛ لَمْ يُشَارِكْهُمْ) زَيْدٌ بِكَوْنِهِ جَارًا؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ وَصَّى لِقَرَابَتِهِ وَالْفُقَرَاءِ؛ فَلِقَرِيبٍ فَقِيرٍ سَهْمَانِ ذَكَرَهُ أَبُو الْمَعَالِي؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ وَصْفَيْهِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ، فَجَازَ تَعَدُّدُ اسْتِحْقَاقِهِ بِتَعَدُّدِ وَصْفِهِ.
(وَ) لَوْ وَصَّى بِثُلُثِهِ (لِأَحَدِ هَذَيْنِ) بِأَنْ قَالَ: وَصَّيْت بِثُلُثِي لِأَحَدِ هَذَيْنِ، وَهُوَ مُكَرَّرٌ مَعَ مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ، أَوْ مُبْهَمٌ كَأَحَدِ هَذَيْنِ (أَوْ) وَصَّى بِهِ (لِجَارِهِ) فُلَانٍ (أَوْ قَرِيبِهِ فُلَانٍ بِاسْمٍ مُشْتَرَكٍ؛ لَمْ يَصِحَّ) لِإِبْهَامِ الْمُوصَى لَهُ، وَتَعْيِينُهُ شَرْطٌ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ قَرِينَةٌ أَوْ غَيْرُهَا أَنَّهُ أَرَادَ مُعَيَّنًا مِنْهُمَا وَأَشْكَلَ؛ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، وَأُخْرِجَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمَا بِقُرْعَةٍ فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. قَالَهُ ابْنُ رَجَبٍ فِي الْقَاعِدَةِ [الْخَامِسَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ]. [(فـَ) لَوْ قَالَ: عَبْدِي (غَانِمٌ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَلَهُ)؛ أَيْ: غَانِمٍ مِائَةُ] (دِرْهَمٍ، وَلَهُ)؛ أَيْ: الْمُوصِي (عَبْدَانِ) مُسَمَّيَانِ (بِهَذَا الِاسْمِ) غَانِمٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي (عَتَقَ أَحَدُهُمَا)؛ أَيْ: الْعَبْدَيْنِ الْمُسَمَّيَيْنِ بِهَذَا الِاسْمِ (بِقُرْعَةٍ وَلَا شَيْءَ لَهُ)؛ أَيْ: لِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ (مِنْ الدَّرَاهِمِ) الْمُوصَى بِهَا، وَلَوْ خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَلَمْ تَصِحَّ نَصًّا. (وَيَصِحُّ) قَوْلُ مُوصٍ: (أَعْطُوا ثُلُثِي لِأَحَدِهِمَا) كَأَعْتِقُوا أَحَدَ عَبْدَيَّ (وَيَلْزَمُ، وَخُيِّرَ وَرَثَةٌ) فِيمَنْ يُعْطُوهُ الثُّلُثَ مِنْهُمَا أَوْ يُعْتِقُوهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ بِالتَّمْلِيكِ أَوْ الْعِتْقِ، فَصَحَّ جَعْلُهُ إلَى اخْتِيَارِ الْوَرَثَةِ كَقَوْلِهِ لِوَكِيلِهِ: بِعْ سِلْعَتِي مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ، بِخِلَافِ وَصَّيْت؛ فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ؛ فَلَمْ يَصِحَّ لِمُبْهَمٍ. (وَلَوْ وَصَّى بِبَيْعِ عَبْدِهِ) الْمُعَيَّنِ لِمُعَيَّنٍ مِنْ اثْنَيْنِ؛ كَمَا لَوْ قَالَ لِوَصِيِّهِ: بِعْ عَبْدِي سَالِمًا (لِزَيْدٍ أَوْ) قَالَ: بِعْهُ (لِعُمَرَ، أَوْ) أَبْهَمَ فَقَالَ: بِعْهُ (لِأَحَدِهِمَا؛ صَحَّ، وَخُيِّرُوا)؛ أَيْ: الْمَجْعُولُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ جَعَلَ لِوَصِيِّهِ تَعْيِينَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. [فَصَحَّتْ] وَالْوَصِيَّةُ بِبَيْعِ شَيْءٍ لِمَنْ يُعَيِّنُهُ الْمُوصِي أَوْ وَصِيُّهُ فِي ذَلِكَ، فِيهَا غَرَضٌ مَقْصُودٌ عُرْفًا، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ، ثُمَّ هَذَا تَارَةً يَكُونُ الْغَرَضُ الْإِرْفَاقَ بِالْعَبْدِ بِإِيصَالِهِ إلَى مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِحُسْنِ الْمَلَكَةِ وَإِعْتَاقِ الرِّقَابِ، وَتَارَةً يَكُونُ الْغَرَضُ الْإِرْفَاقَ بِالْمُشْتَرِي لِمَعْنًى يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ، فَلَوْ تَعَذَّرَ بَيْعُ الْعَبْدِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ، أَوْ أَبَى أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِثَمَنٍ عَيَّنَهُ الْمُوصِي أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يُعَيِّنْ الثَّمَنَ؛ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ. (لَا) إنْ وَصَّى وَرَثَتَهُ (أَنْ يَبِيعُوهُ)؛ أَيْ: الْعَبْدَ (وَيُطْلِقُ) فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُسْتَحِقٍّ، وَلَا مُسْتَحِقَّ هَاهُنَا. (وَلَوْ) (وَصَّى لِشَخْصٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً ثُمَّ هُوَ)؛ أَيْ: الْعَبْدُ بَعْدَ خِدْمَتِهِ لِمُوصَى لَهُ سَنَةً (حُرٌّ، فَوَهَبَهُ)؛ أَيْ: وَهَبَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ (الْخِدْمَةَ) عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُدَّةِ (أَوْ رَدَّ) الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ (عَتَقَ) الْعَبْدُ (مُنَجَّزًا) وَإِنْ وَهَبَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الْخِدْمَةِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ عَتَقَ بِمُجَرَّدِ [الْهِبَةِ (لَا) أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ الْهِبَةِ أَوْ الرَّدِّ إلَّا (بَعْدَ) مُضِيِّ (سَنَةٍ) مِنْ ابْتِدَاءِ الْخِدْمَةِ] (خِلَافًا لَهُ)؛ أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ قَالَ: يَخْدُمُ عَبْدِي فُلَانًا سَنَةً، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ؛ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، أَوْ وَهَبَ لَهُ الْخِدْمَةَ؛ لَمْ يَعْتِقْ إلَّا بَعْدَ السَّنَةِ انْتَهَى.
وَالْمُعْتَمَدُ مَا عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ. (وَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ) وَصَّى (بِوَقْفِهِ؛ لَزِمَ) الْعَمَلُ بِوَصِيَّتِهِ وُجُوبًا (وَلَمْ يَقَعْ) الْعِتْقُ أَوْ الْوَقْفُ (حَتَّى يُنَجِّزَهُ وَارِثُهُ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ أَمْرٌ بِفِعْلِهِ، فَلَمْ يَقَعْ إلَّا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ كَالتَّوْكِيلِ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ هُنَا يَلْزَمُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ (فَإِنْ أَبَى) وَارِثٌ تَنْجِيزَهُ (فَحَاكِمٌ) يُنَجِّزُهُ، وَيَكُونُ حُرًّا أَوْ وَقْفًا مِنْ حِينِ عَتَقَ أَوْ وُقِفَ، وَوَلَاؤُهُ لِمُوصٍ (وَكَسْبُهُ)؛ أَيْ: الْمُوصَى بِعِتْقِهِ أَوْ وَقْفِهِ (بَيْنَ مَوْتِ) [مُوصٍ (وَتَنْجِيزِ)] مَا وَصَّى بِهِ مِنْ عِتْقٍ أَوْ وَقْفٍ (إرْثٌ) لِبَقَائِهِ فِي الْمِلْكِ إلَى التَّنْجِيزِ.
(وَ) قَالَ (فِي الرَّوْضَةِ): الْقِنُّ (الْمُوصَى بِعِتْقِهِ لَيْسَ بِمُدَبَّرٍ، وَلَهُ)؛ أَيْ: الْقِنِّ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ (حُكْمُ) الْقِنِّ (الْمُدَبَّرِ فِي كُلِّ أَحْكَامِهِ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(بَابُ أَحْكَامِ الْمُوصَى بِهِ):

وَهُوَ آخِرُ أَرْكَانِ الْوَصِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ مُوصٍ وَصِيغَةٌ، وَمُوصَى لَهُ وَمُوصَى بِهِ. (يُعْتَبَرُ) فِي الْمُوصَى بِهِ (إمْكَانُهُ) قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ (فَلَا) تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ (بِمُدَبَّرٍ) لِعَدَمِ إمْكَانِهِ بِحُرِّيَّتِهِ بِمَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا بِحَمْلِ أَمَتِهِ الْآيِسَةِ، وَلَا بِخِدْمَةِ أَمَتِهِ الزَّمِنَةِ. (وَيَتَّجِهُ) عَدَمُ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمُدَبَّرِ (مَا لَمْ يَقْتُلْ) الْمُدَبَّرُ (سَيِّدَهُ) فَإِنْ قَتَلَ سَيِّدَهُ وَلَوْ خَطَأً؛ بَطَلَ تَدْبِيرُهُ، وَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ (وَنَحْوِهِ) كَمَا لَوْ قَتَلَ مُوصَى لَهُ مُوصِيًا فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَمْنَعُ الْقَاتِلَ مِنْ الْمِيرَاثِ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْوَصِيَّةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَتَقَدَّمَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَ) يُعْتَبَرُ فِيهَا أَيْضًا (اخْتِصَاصُهُ)؛ أَيْ: الْمُوصَى بِهِ بِالْمُوصِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَجِلْدِ مَيِّتَةٍ وَنَحْوِهِ (فَلَا تَصِحُّ) الْوَصِيَّةُ (بِمَالِ غَيْرِهِ، وَلَوْ مَلَكَهُ بَعْدُ) كَمَا لَوْ قَالَ: وَصَّيْتُ لَكَ بِمَالِ زَيْدٍ أَوْ ثُلُثِهِ؛ فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ- وَلَوْ مَلَكَ الْمُوصِي مَالَ زَيْدٍ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ- لِفَسَادِ الصِّيغَةِ حِينَئِذٍ بِإِضَافَةِ الْمَالِ إلَى غَيْرِهِ. (وَلَا) تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ (بِمَا لَا نَفْعَ فِيهِ كَخَمْرٍ وَمَيْتَةٍ وَخِنْزِيرٍ وَسِبَاعٍ) مِنْ بَهَائِمَ وَطُيُورٍ (لَا تَصْلُحُ لِصَيْدٍ) لِعَدَمِ نَفْعِهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ؛ فَلَا تَصِحُّ بِذَلِكَ كَالْهِبَةِ، وَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى إرَاقَةِ الْخَمْرِ وَإِعْدَامِهِ، فَلَمْ يُنَاسِبْ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ بِهِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ. (وَيَتَّجِهُ) أَنْ لَا تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِمَا ذُكِرَ (إلَّا لِمُضْطَرٍّ لِأَكْلِهَا) أَوْ لِإِزَالَةِ لُقْمَةٍ غُصَّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ [يَجُوزُ] التَّنَاوُلُ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارَ إزَالَةِ الضَّرَرِ لَا غَيْرُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَتَصِحُّ) الْوَصِيَّةُ (بِإِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ) إنَاءِ (فِضَّةٍ) لِأَنَّهُ مَالٌ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ؛ بِأَنْ يَكْسِرَهُ وَيَبِيعَهُ أَوْ يُغَيِّرَهُ عَنْ هَيْئَتِهِ، فَيَجْعَلُهُ حُلِيًّا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ كَالْأَمَةِ الْمُغَنِّيَةِ.
(وَ) تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ (بِمَا يَعْجِزُ) مُوصٍ (عَنْ تَسْلِيمِهِ) لَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ حَالَ الْوَصِيَّةِ. (وَلِوَصِيٍّ)؛ أَيْ: مُوصَى لَهُ (السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ) فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ. مِثَالُ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ (كَآبِقٍ) مِنْ رَقِيقٍ (وَشَارِدٍ) مِنْ دَوَابَّ (وَطَيْرٍ بِهَوَاءٍ وَحَمْلٍ بِبَطْنٍ وَلَبَنٍ بِضَرْعٍ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْمِيرَاثِ، وَهَذَا يُوَرَّثُ، فَيُوصَى بِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحَمْلِ أَنْ يَكُونَ حَمْلَ أَمَةٍ أَوْ حَمْلَ بَهِيمَةٍ مَمْلُوكَةٍ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ لَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، فَجَرَى مَجْرَى إعْتَاقِهِ. وَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي الْأَمَةِ بِمَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْحَمْلِ الْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ كَانَ حَمْلَ بَهِيمَةٍ اُعْتُبِرَ وُجُودُهُ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ وُجُودُهُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ.
(وَ) تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ (بِمَعْدُومٍ) لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ بِالسَّلَمِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِالْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ كَوَصِيَّتِهِ (بِمَا تَحْمِلُ أَمَتُهُ) أَبَدًا أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً (أَوْ) بِمَا تَحْمِلُ (شَجَرَتُهُ أَبَدًا أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً) كَسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَضْمَنُ الْوَارِثُ السَّقْيَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ تَسْلِيمَهَا، بِخِلَافِ مُشْتَرَكٍ، (وَ) كَوَصِيَّةٍ (بِمِائَةٍ) مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِهَا لَا يَمْلِكُهَا مُوصٍ حَالَ وَصِيَّتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْوَصِيَّةِ بِمَالِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهَا إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ سِوَاهُ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا (فَإِنْ حَصَلَ شَيْءٌ) مِمَّا وَصَّى بِهِ مِنْ الْمَعْدُومِ؛ فَلِمُوصَى لَهُ (أَوْ قَدَرَ) مُوصٍ (عَلَى الْمِائَةِ) الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ، (أَوْ) قَدَرَ عَلَى (شَيْءٍ مِنْهَا عِنْدَ مَوْتِ) الْمُوصِي، (فـَ) هُوَ لِمُوصَى (لَهُ) بِمُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ. (إلَّا حَمْلَ الْأَمَةِ) الْمُوصَى لَهُ بِهِ؛ (فـَ) يَكُونُ لَهُ (قِيمَتُهُ) لِئَلَّا يُفَرَّقَ بَيْنَ ذَوِي رَحِمٍ فِي الْمِلْكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقِيمَةَ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ إنْ قَبِلَ قَبْلَهَا، وَإِلَّا فَوَقْتَ الْقَبُولِ، فَلَوْ مَاتَتْ أَمَةٌ بِمُجَرَّدِ الْوَضْعِ فَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ أَنْ تَكُونَ لِمُوصَى لَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي خِلَافَهُ. (وَإِلَّا) يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (بَطَلَتْ) الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُصَادِفْ مَحَلًّا كَمَا لَوْ وَصَّى بِثُلُثِهِ، وَلَمْ يُخْلِفْ شَيْئًا (كَمَا لَوْ لَمْ تَحْمِلْ الْأَمَةُ حَتَّى صَارَتْ حُرَّةً) فَإِنْ وُطِئَتْ وَهِيَ فِي الرِّقِّ بِشُبْهَةٍ، وَحَمَلَتْ فَعَلَى وَاطِئٍ قِيمَةُ الْوَلَدِ الْمُوصَى لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ.
(وَ) تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ (ب) مَا فِيهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ مِنْ (غَيْرِ مَالٍ، كَكَلْبِ صَيْدٍ وَ) كَلْبِ (مَاشِيَةٍ وَ) كَلْبِ (زَرْعٍ وَ) كَلْبِ (حِرَاسَةِ بُيُوتٍ وَجَرْوٍ) يُرَبَّى (لِذَلِكَ)؛ أَيْ: لِمَا يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ مِمَّا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا مُبَاحًا، وَتُقَرُّ الْيَدُ عَلَيْهِ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ، فَصَحَّتْ بِغَيْرِ الْمَالِ كَالْمَالِ (غَيْرِ) كَلْبٍ (أَسْوَدَ بَهِيمٍ) لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ صَيْدُهُ وَلَا اقْتِنَاؤُهُ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ)؛ أَيْ: الْمُوصِي (كَلْبٌ كَذَلِكَ)؛ أَيْ: مُبَاحٌ (لَمْ تَصِحَّ) الْوَصِيَّةُ سَوَاءٌ قَالَ مِنْ كِلَابِي أَوْ مِنْ مَالِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ شِرَاؤُهُ وَلَا قِيمَةَ لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى بِمُتَقَوِّمٍ أَوْ مِثْلِيٍّ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، فَيُشْتَرَى لَهُ ذَلِكَ مِنْ التَّرِكَةِ. وَإِنْ وَصَّى بِكَلْبٍ وَلَهُ كِلَابٌ؛ فَلِلْوَرَثَةِ إعْطَاؤُهُ أَيَّ كَلْبٍ شَاءُوا. صَوَّبَهُ فِي الْإِنْصَافِ. (وَكَزَيْتٍ مُتَنَجِّسٍ) فَتَصِحُّ بِهِ الْوَصِيَّةُ (لِغَيْرِ مَسْجِدٍ) لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا مُبَاحًا وَهُوَ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ، وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِمَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ. (وَلَهُ)؛ أَيْ: الْمُوصَى لَهُ بِالْكَلْبِ الْمُبَاحِ أَوْ الزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ (ثُلُثُهُمَا لَا غَيْرُ، وَلَوْ كَثُرَ الْمَالُ إنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ) لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْوَصِيَّةِ عَلَى أَنْ يُسَلَّمَ ثُلُثَا التَّرِكَةِ لِلْوَرَثَةِ، وَلَيْسَ مِنْ التَّرِكَةِ شَيْءٌ مِنْ الْمُوصَى بِهِ، وَإِنْ وَصَّى لِزَيْدٍ بِكِلَابِهِ؛ وَوَصَّى لِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ؛ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ الْمَالِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْكِلَابِ ثُلُثُهَا إنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ ثُلُثَيْ الْمَالِ قَدْ حَازَتْ الْوَصِيَّةُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَلَمْ يُحْتَسَبْ عَلَى الْوَرَثَةِ بِالْكِلَابِ. [(وَ) لَوْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَمْ يُوصِ بِالْكِلَابِ] (لَا تَدْخُلُ كِلَابٌ فِي وَصِيَّةٍ بِثُلُثِ مَالِهِ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ، (فـَ) يَدْفَعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثَ الْمَالِ، وَلَمْ تُحْتَسَبْ الْكِلَابُ عَلَى الْوَرَثَةِ، بَلْ (تَخْتَصُّ بِهَا)؛ أَيْ: الْكِلَابِ (وَرَثَةُ) الْمُوصِي (وَتُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ)؛ أَيْ: الْوَرَثَةِ بِالْعَدَدِ (فَإِنْ تَشَاحُّوا فِي بَعْضِهَا) بِأَنْ طَلَبَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ (أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ) قَالَهُ فِي الشَّرْحِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِهِمْ عَلَى غَيْرِهِ.
تَنْبِيهٌ:
وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ أُوصِي لَهُ بِثَلَاثَةٍ مِنْ الْكِلَابِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهَا، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الزَّائِدِ عَنْ الثُّلُثِ لَهُمْ.
(وَ) تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ (بِمُبْهَمٍ كَثَوْبٍ) لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَبِيهٌ بِالْوَارِثِ مِنْ جِهَةِ انْتِقَالِ شَيْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ إلَيْهِ مَجَّانًا، وَالْجِهَاتُ لَا تَمْنَعُ الْإِرْثَ؛ فَلَا تَمْنَعُ الْوَصِيَّةَ (وَيُعْطَى) الْمُوصَى لَهُ (مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ)؛ أَيْ: اسْمُ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْسُوجًا مِنْ حَرِيرٍ أَوْ كَتَّانٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ وَنَحْوِهِ، مَصْبُوغًا أَوْ لَا، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَالْوَصِيَّةُ تَصِحُّ بِالْمَعْدُومِ فَهَذَا أَوْلَى. (فَإِنْ اخْتَلَفَ) اسْمُ مُوصَى بِهِ (بِالْعُرْفِ وَالْحَقِيقَةِ) اللُّغَوِيَّةِ (غُلِّبَ الْعُرْفُ كَالْيَمِينِ) اخْتَارَهُ الْمُوَفَّقُ، وَصَحَّحَهُ النَّاظِمُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَالتَّبْصِرَةِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَتُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ خُوطِبَ قَوْمٌ بِشَيْءٍ لَهُمْ فِيهِ عُرْفٌ، وَحَمَلُوهُ عَلَى عُرْفِهِمْ لَمْ يُعَدُّوا مُخَالِفِينَ (خِلَافًا لِلْمُنْتَهَى) فِي قَوْلِهِ؛ فَإِنْ اخْتَلَفَ بِالْعُرْفِ وَالْحَقِيقَةِ؛ قُدِّمَتْ. انْتَهَى.
وَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِعُرْفِهِ، وَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ (فَشَاةٌ وَغَنَمٌ) هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، وَالْهَاءُ لِلْوَاحِدَةِ (وَبَعِيرٌ وَإِبِلٌ وَثَوْرٌ وَفَرَسٌ وَبَقَرٌ وَخَيْلٌ وَقِنٌّ وَرَقِيقٌ لُغَةً لِذَكَرٍ وَأُنْثَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ) فَيُعْطَى مُوصَى لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ [مَا] يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَخُنْثَى صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ؛ لَصَلَاحِيَّةِ اللَّفْظِ لَهُ (وَعُرْفًا فَالشَّاةُ هِيَ الْأُنْثَى الْكَبِيرَةُ مِنْ ضَأْنٍ وَمَاعِزٍ) غُلِّبَ الْعُرْفُ كَالْأَيْمَانِ (وَالثَّوْرُ وَالْبَعِيرُ) فِي الْعُرْفِ (الذَّكَرُ الْكَبِيرُ) مِنْ الْبَقَرِ أَوْ الْإِبِلِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى غُلِّبَ الْعُرْفُ كَالْأَيْمَانِ (وَالدَّابَّةُ لُغَةً مَا دَبَّ، وَعُرْفًا اسْمٌ لِذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنْ خَيْلٍ وَبِغَالٍ وَحَمِيرٍ) لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَعَارَفُ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَالْقَائِلُونَ بِالْحَقِيقَةِ لَمْ يَقُولُوا هَاهُنَا بِالْأَعَمِّ، كَأَنَّهُمْ لَحَظُوا غَلَبَةَ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ بِحَيْثُ صَارَتْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً. (فَإِنْ) قَرَنَ الْمُوصِي بِذِكْرِ الدَّابَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ مَا يَصْرِفُهُ إلَى أَحَدِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ، كَأَنْ (قَالَ): أَعْطُوا لَهُ (دَابَّةً يُقَاتِلُ عَلَيْهَا أَوْ يُسْهِمُ لَهَا؛ انْصَرَفَ لِخَيْلٍ)؛ لِاخْتِصَاصِهَا بِذَلِكَ، (وَ) إنْ قَالَ أَعْطُوا لَهُ (دَابَّةً يَنْتَفِعُ بِظَهْرِهَا وَنَسْلِهَا خَرَجَ ذَكَرٌ وَبَغْلٌ) لِانْتِفَاءِ النَّسْلِ فِيهِمَا (وَحِصَانٌ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ (وَجَمَلٌ وَحِمَارٌ وَعَبْدٌ لِذَكَرٍ) فَقَطْ.
قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ، وَلِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْعَبْدِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ فَلَيْسَ لَهُ شِرَاءُ أَمَةٍ (وَحِجْرٌ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ الْأُنْثَى مِنْ الْخَيْلِ.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَبِالْهَاءِ لَحْنٌ (وَأَتَانُ) الْحِمَارَةِ.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْأَتَانَةُ قَلِيلَةٌ (وَنَاقَةٌ وَبَكْرَةٌ وَقَلُوصٌ وَبَقَرَةٌ لِأُنْثَى) مِنْ إبِلٍ وَبَقَرٍ (وَكَبْشٌ لِكَبِيرِ ذَكَرِ ضَأْنٍ وَتَيْسٌ لِكَبِيرِ ذَكَرِ مَعْزٍ) فَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ عَشْرَةً أَوْ عَشْرًا مِنْ غَنَمِي؛ فَلِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُلْحَظُ فِي التَّذْكِيرِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَفِي التَّأْنِيثِ مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، وَأَيْضًا اسْمُ الْجِنْسِ يَصِحُّ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ. (وَتَصِحُّ) الْوَصِيَّةُ (بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ وَتُعْطِيهِ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا مِنْهُمْ)؛ أَيْ: مِنْ عَبِيدِهِ نَصًّا، لِتَنَاوُلِ اسْمِ الْعَبْدِ لِلْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَالصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ (فَإِنْ مَاتُوا)؛ أَيْ: عَبِيدُ الْمُوصِي (إلَّا وَاحِدًا تَعَيَّنَتْ) الْوَصِيَّةُ (فِيهِ) لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْبَاقِي (وَإِنْ قُتِلُوا) كُلُّهُمْ بَعْدَ مَوْتِ مُوصٍ؛ (فـَ) لِمُوصَى (لَهُ قِيمَةُ أَحَدِهِمْ) تَخْتَارُ الْوَرَثَةُ إعْطَاءَهُ لَهُ (عَلَى قَاتِلٍ) لَهُ كَمَا يَلْزَمُ الْقَاتِلَ قِيمَتُهُ (وَالْخِيَرَةُ لِلْوَرَثَةِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوصَى بِهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ)؛ أَيْ الْمُوصِي (عَبْدٌ) حَالَ الْوَصِيَّةِ (وَلَمْ يَمْلِكْهُ)؛ أَيْ: يَمْلِكُ عَبْدًا (قَبْلَ مَوْتِهِ؛ لَمْ تَصِحَّ) الْوَصِيَّةُ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِمَا فِي كِيسِهِ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَتَبْطُلُ إنْ مَاتُوا كُلُّهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَلْزَمُ بِالْمَوْتِ، وَلَا رَقِيقَ لَهُ حِينَئِذٍ. (وَإِنْ مَلَكَ) مَنْ لَيْسَ لَهُ عَبِيدٌ حِينَ الْوَصِيَّةِ (وَاحِدًا) بَعْدَهَا تَعَيَّنَ (أَوْ كَانَ) لَهُ حِينَ الْوَصِيَّةِ عَبْدٌ وَاحِدٌ (تَعَيَّنَ) كَوْنُهُ لِمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيَّةِ مَحِلٌّ غَيْرُهُ؛ وَكَذَا حُكْمُ شَاةٍ مِنْ غَنَمِهِ وَثَوْبٍ مِنْ ثِيَابِهِ وَنَحْوِهِ. (وَإِنْ قَالَ) مُوصٍ (أَعْطُوهُ عَبْدًا مِنْ مَالِي أَوْ) أَعْطُوهُ (مِائَةً مِنْ أَحَدِ كِيسَيَّ وَ) الْحَالُ أَنْ (لَا عَبْدَ لَهُ) فِي الْأَوْلَى (أَوْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا)؛ أَيْ: فِي الْكِيسَيْنِ شَيْءٌ فِي الثَّانِيَةِ (اشْتَرَى لَهُ ذَلِكَ) الْمُوصَى بِهِ، وَأُعْطِيَ الْمِائَةَ مِنْ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ قَصَدَ أَنْ يَصِلَ لَهُ مِنْ مَالِهِ ذَلِكَ الْمُوصَى بِهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِشِرَائِهِ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ إعْطَاءِ الْمِائَةِ مِنْهُ تَنْفِيذًا لِلْوَصِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَّى لَهُ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ وَلَا عَبْدَ لَهُ؛ فَتَبْطُلُ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْقَدْرَ الْفَائِتَ فِي صُورَةِ الْمِائَةِ صِفَةُ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ لَا أَصْلَ الْمَحَلِّ، فَإِنَّ كِيسًا يُؤْخَذُ مِنْهُ مِائَةٌ مَوْجُودٌ مِلْكًا، فَأَمْكَنَ تَعَلُّقُ الْوَصِيَّةِ بِهِ، وَالْفَائِتُ فِي صُورَةِ الْعَبْدِ أَصْلُ الْمَحَلِّ، وَهُوَ عَدَمُ الْعَبِيدِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَالتَّعَلُّقُ مُتَعَذِّرٌ. انْتَهَى.
(وَ) إنْ وَصَّى (بِقَوْسٍ وَلَهُ أَقْوَاسٌ) قَوْسٌ (لِرَمْيٍ) نُشَّابٌ- وَهُوَ الْفَارِسِيُّ- أَوْ قَوْسُ نَبْلٍ- وَهُوَ الْعَرَبِيُّ- أَوْ قَوْسٌ بِمَجْرَى- وَهُوَ الْقَوْسُ الَّذِي يُوضَعُ السَّهْمُ الصَّغِيرُ فِي مَجْرَاهُ- فَيَخْرُجُ السَّهْمُ مِنْ الْمَجْرَى، وَيُقَالُ لَهُ قَوْسُ حَسِبَانِ- وَهِيَ السِّهَامُ الصَّغِيرَةُ- قَالَهُ الْحَارِثِيُّ (وَ) قَوْسٌ لِرَمْيِ (بُنْدُقٍ) وَهُوَ قَوْسُ جُلَاهِقَ- بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَاءِ- وَهِيَ اسْمٌ لِلْبُنْدُقِ، وَأَصْلُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ جُلَاهَهْ وَهِيَ كُبَّةُ غَزْلٍ وَالْكَبِيرُ جُلُّهَا (وَ) قَوْسِ (نَدْفٍ) يُنْدَفُ بِهِ نَحْوُ الْقُطْنِ (فَلَهُ)؛ أَيْ: الْمُوصَى لَهُ بِقَوْسٍ مُطْلَقٍ (قَوْسُ النَّشَّابِ) بِغَيْرِ وَتَرٍ (لِأَنَّهَا أَظْهَرُهَا)؛ أَيْ: أَسْبَقُ إلَى الْفَمِ، فَلَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُتَعَارَفِ يُعَيِّنُهُ الْوَارِثُ (إلَّا مَعَ صَرْفِ قَرِينَةٍ إلَى غَيْرِهَا) كَأَنْ يَكُونَ نَدَّافًا لَا عَادَةَ لَهُ بِالرَّمْيِ، أَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَرْمِيَ الطُّيُورَ بِالْبُنْدُقِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُوصِي أَنَّهُ قَصَدَ نَفْعَهُ بِمَا جَرَتْ عَادَتُهُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا قَوْسٌ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْقِسِيِّ؛ تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ فِيهِ؛ إذْ لَا مَحَلَّ لَهَا غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَقْوَاسٌ مِنْ النَّوْعِ الَّذِي اسْتَحَقَّ الْوَصِيُّ قَوْسًا مِنْهَا؛ أَعْطَاهُ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا مِنْهَا؛ كَالْوَصِيَّةِ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ (وَلَا يَدْخُلُ) فِي الْوَصِيَّةِ بِقَوْسٍ (وَتَرُهَا) لِأَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَيْهَا دُونَهُ.
(وَ) مَنْ وَصَّى (بِكَلْبٍ أَوْ طَبْلٍ) وَلَهُ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ كَالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ وَطَبْلِ اللَّهْوِ وَثَمَّ- بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ- (مُبَاحٌ) مِنْ الْكِلَابِ كَاَلَّذِي يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ وَمِنْ الطُّبُولِ (كَطَبْلِ حَرْبٍ) قَالَ الْحَارِثِيُّ وَطَبْلُ صَيْدٍ وَحَجِيجٍ لِنُزُولٍ وَارْتِحَالٍ (انْصَرَفَ) اللَّفْظُ (إلَيْهِ) لِأَنَّ وُجُودَ الْمُحَرَّمِ كَعَدَمِهِ شَرْعًا، فَلَا يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (وَإِلَّا) يَكُنْ عِنْدَهُ كَلْبٌ مُبَاحٌ وَلَا طَبْلٌ مُبَاحٌ (بَطَلَتْ) الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَرَّمِ مَعْصِيَةٌ وَلِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ طَبْلٌ يَصْلُحُ لِلْحَرْبِ وَلِلَّهْوِ مَعًا؛ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ؛ لِقِيَامِ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ فِيهِ. وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْبُوقِ، لِمَنْفَعَتِهِ فِي الْحَرْبِ، قَالَهُ الْقَاضِي. وَإِنْ كَانَ لِلْمُوصِي طُبُولٌ تَصْلُحُ لِلْحَرْبِ، وَوَصَّى بِأَحَدِهَا وَأَطْلَقَ. فَلِلْمُوصَى لَهُ أَحَدُهَا بِاخْتِيَارِ الْوَرَثَةِ. وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمُحَرَّمٍ (كَطَبْلِ لَهْوٍ وَطُنْبُورٍ وَمِزْمَارٍ) وَعُودِ لَهْوٍ وَكَذَا آلَاتُ اللَّهْوِ كُلُّهَا كَرَبَابٍ وَقَانُونٍ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَوْتَارٌ؛ لِأَنَّهَا مُهَيَّئَةٌ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ بِأَوْتَارِهَا. (وَيَتَّجِهُ) بِـ (احْتِمَالٍ) قَوِيٍّ (الصِّحَّةُ)؛ أَيْ: صِحَّةُ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ آلَاتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ إنْ كَانَتْ مِنْ جَوْهَرٍ نَفِيسٍ يُنْتَفَعُ بِكَسْرِهِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، نَظَرًا إلَى الِانْتِفَاعِ بِجَوْهَرِهِمَا، أَوْ كَانَتْ مُكَفَّتَةً بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ (قِيَاسًا عَلَى أَوَانِي نَقْدٍ) لِأَنَّهَا تُكْسَرُ وَتُبَاعُ، فَيُنْتَفَعُ بِثَمَنِهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى جِهَةِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ اتِّجَاهٌ حَسَنٌ، وَقِيَاسٌ مُسْتَحْسَنٌ.
(وَ) لَوْ وَصَّى إنْسَانٌ (بِدَفْنِ كُتُبِ الْعِلْمِ لَمْ تُدْفَنْ) لِأَنَّ الْعِلْمَ مَطْلُوبٌ نَشْرُهُ، وَدَفْنُهُ مُنَافٍ لِذَلِكَ (وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا)؛ أَيْ: كُتُبِ الْعِلْمِ (إنْ وَصَّى بِهَا لِشَخْصٍ: كُتُبُ الْكَلَامِ) قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إمَّا مِنْ عِنْدِهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُخَالِفْهُ. لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِكُتُبِهِ مِنْ الْعِلْمِ لِآخَرَ، وَكَانَ فِيهَا كُتُبُ الْكَلَامِ؛ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْوَصِيَّةِ (لِأَنَّهُ)؛ أَيْ: الْكَلَامَ (لَيْسَ مِنْ الْعِلْمِ) انْتَهَى.
وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: الْكَلَامُ رَدِيءٌ لَا يَدْعُو إلَى خَيْرٍ لَا يُفْلِحُ صَاحِبُ كَلَامٍ، تَجَنَّبُوا أَصْحَابَ الْجِدَالِ وَالْكَلَامِ، وَعَلَيْكَ بِالسُّنَنِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ. وَعَنْهُ: لَا يُفْلِحُ صَاحِبُ كَلَامٍ أَبَدًا وَلَا تَرَى أَحَدًا نَظَرَ فِي الْكَلَامِ إلَّا وَفِي قَلْبِهِ دَغَلٌ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِكٍ فِيمَا حَكَى الْبَغَوِيّ: لَوْ كَانَ الْكَلَامُ عِلْمًا لَتَكَلَّمَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ كَمَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ، وَلَكِنَّهُ بَاطِلٌ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْآثَارِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ لَا يُعَدُّونَ فِي طَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ. (وَمَنْ وَصَّى بِإِحْرَاقِ ثُلُثِ مَالِهِ صَحَّ وَصُرِفَ فِي تَجْمِيرِ الْكَعْبَةِ)؛ أَيْ: تَبْخِيرِهَا (وَتَنْوِيرِ الْمَسَاجِدِ) وَشِرَاءِ بَارُودٍ لِجِهَادِ كُفَّارٍ.
(وَ) لَوْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ (فِي التُّرَابِ يُصْرَفُ فِي تَكْفِينِ الْمَوْتَى).
(وَ) لَوْ وَصَّى بِثُلُثِهِ (فِي الْمَاءِ، يُصْرَفُ فِي عَمَلِ سُفُنٍ لِلْجِهَادِ) مُحَافَظَةً عَلَى تَصْحِيحِ كَلَامِ الْمُكَلِّفِ مَهْمَا أَمْكَنَ (وَيَتَّجِهُ) وَلَوْ وَصَّى بِثُلُثِهِ (فِي الْهَوَاءِ فَ) يُصْرَفُ (فِي نَحْوِ سِهَامٍ) كَنُشَّابٍ (تُرْمَى فِي الْجِهَادِ) فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَقَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ باذهنج لِمَسْجِدٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُصَلُّونَ قَالَ) تِلْمِيذُهُ (فِي الْمُبْدِعِ وَفِيهِ شَيْءٌ) انْتَهَى.
(وَتُنَفَّذُ وَصِيَّةُ) مُوصٍ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مِنْ مَالِهِ كَرُبُعٍ وَخُمُسٍ (فِيمَا عَلِمَ) الْمُوصِي (مِنْ مَالِهِ وَمَا لَمْ يَعْلَمْ) مِنْهُ؛ لِعُمُومِ لَفْظِهِ، فَإِنَّ الْمَالَ يَعُمُّ مَعْلُومُهُ وَمَجْهُولُهُ، وَقِيَاسًا عَلَى نَذْرِ الصَّدَقَةِ بِالثُّلُثِ. (فَإِنْ وَصَّى بِثُلُثِهِ) لِنَحْوِ زَيْدٍ أَوْ مَسْجِدٍ (فَاسْتَحْدَثَ مَالًا) بَعْدَ الْوَصِيَّةِ (وَلَوْ بِنَصْبِ أُحْبُولَةٍ قَبْلَ مَوْتِهِ فَيَقَعُ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَهُ دَخَلَ ثُلُثُهُ)؛ أَيْ: ثُلُثُ الْمَالِ الْمُسْتَحْدَثِ (فِي الْوَصِيَّةِ) قَالَ فِي الْإِنْصَافِ هَذَا الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.
قَالَ فِي الْمُحَرَّر: وَمَنْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ؛ تَتَنَاوَلُ الْمُتَجَدِّدَ وَالْمَوْجُودَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَلِأَنَّهُ تَرِثُهُ وَرَثَتُهُ (وَيُقْضَى مِنْهُ دَيْنُهُ) أَشْبَهَ مَا لَوْ مَلَكَهُ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ. (وَإِنْ قُتِلَ) مَنْ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً (فَأُخِذَتْ دِيَتُهُ فَمِيرَاثٌ)؛ أَيْ: فَدِيَتُهُ مِيرَاثٌ عَنْهُ، فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ التَّرِكَةِ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدِّيَةَ مِيرَاثٌ، فَعَلَى هَذَا (تَدْخُلُ) الدِّيَةُ (فِي وَصِيَّةٍ، وَيُقْضَى مِنْهَا دَيْنُهُ) لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ وَنَفْسُهُ لَهُ؛ فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا، وَلِأَنَّ دِيَةَ أَطْرَافِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَهُ، فَكَذَلِكَ دِيَةُ نَفْسِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَمَّا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، فَأَمَّا مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ كَتَجْهِيزِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ فَلَا، وَوَصِيَّتُهُ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَحْدُثُ الدِّيَةُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ (وَتَجِبُ) الدِّيَةُ (عَلَى الْوَرَثَةِ)؛ أَيْ: وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ (إنْ) كَانَ (وَصَّى بِمُعَيَّنٍ بِقَدْرِ نِصْفِهَا)؛ أَيْ: الدِّيَةِ كَمَا لَوْ وَصَّى بِنَحْوِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ بِقَدْرِ نِصْفِ الدِّيَةِ، حُسِبَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ مِنْ ثُلُثَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَرِكَةٌ، وَيَأْخُذُ الْعَبْدُ الْمُوصَى لَهُ بِهِ.